ثرثرة ليليّة






ماذا يعني أن تبحث عن شيء مندس، شيء لا يظهر في الكلمات أو في القسمات، شيء يكمن في الداخل، بين الفكرة وصداها، وبين القلب وعضلته اليمنى، وبين حديث النفس وأنفاسها. ماذا يعني أن تبحث عن المكنون، وعن منتهى الصدق، وما يستقر في قعر الشعور وأكثره براءة، وعما يجعل المرء أول المؤمنين به في خلَده، وأول المترددين في البوح به. أن تبحث عن شيء بـ هكذا عمق وهكذا سريّة، يعني أن تسبح في أكبر محطة للتيه. فنحن البشر ليس لنا سوى الظاهر، ذلك الظاهر الذي تنطلق منه التعابير والكلمات والتصرفات، مقتبسة من الباطن الشيء اليسير، تاركة في أعماقه الشيء الكثير مما لا ندركه وربما لن ندركه، فنظل نتعايش فيما بيننا في نطاق هلاميّ محدود بالخارج تاركين لدواخلنا نطاقاً أكثر اتساعاً من المعاني الخفيّة، فلا يمكننا من خلال ذلك الظاهر أن نراهن على الصدق بكل ما أوتينا من إيمان، ولا نجزم باليقين تجاه الآخرين بدرجة كاملة تحيلنا إلى العمى. فأرى أن أعمق نقطة في الإنسان منطقة ضيقة، لا تتسع إلا للإنسان ذاته ونفسه فقط، وما سوى ذلك فهو ينضح في الأعين والكلمات والمشاعر، وتظل تلك النقطة عصيّة على كل فرد من البشريّة مهما أجاد من مهارات الغوص في الآخرين من خلال البوح والقرب والتودد. بالنسبة لي، أستقر دائماً إلى معنى أن الإنسان يظل إنساناً، فيكون مهيأ للسقوط، والكذب، والنسيان، والكره، والبعد، بل وحتى العودة كالطفل، والتذلل، والحب، والوفاء الخالص. أؤمن دائماً ببشرية الإنسان المتقلبة وديمومة الإله الخالصة، وبالتالي، لا أتعجب كثيراً منا كبشر حين نتقلب بين الإقبال والإدبار في مستويات متقاربة ولا أعني الانقلاب العكسي المذموم (الانتكاسة) في برهة واحدة، بل أعني ذلك التفاوت الذي ينتابنا بفعل بشريتنا وتأثير ما نتعرض له من عالم (الظاهر) الذي يحيطنا بالكلمات والمواقف والتصادمات والعواطف وأكثر. وذلك لأننا لسنا تلك الأرواح التي تتغلغل في دواخل الآخرين لتدرك ما يكن كلّن في نفسه، ولم نكن ذلك الجسد الهامد الذي يخلو من الإنسانية ويتعاطى بالمادة والظاهر فقط، فنحن البشر نقبع بين ما يصدر من الآخرين الذي نتلقاه وبين الحدس الذي يقع في نفسنا تجاهه، لكننا لا ندرك مكنون الآخرين العميق حين صدر منهم ما صدر، أو إن صح التعبير لا يمكننا الجزم بدرجة كاملة حياله، ربما كان هذا هو التعليل لكون الظن أكذب الحديث، وبعضه إثم وخطيئة. فكم من صادق الشعور لم يلفظه الجب من مكنوننا، وكم من معانٍ صافية لم تأذن لها الفرص بأن تغادر تلك المنطقة وتتخلص من قبضة الإنسان وحدسه لتحلق في بوح الكلمات والنظرات والتصرفات. فحين لا نتمكن من الوصول إلى تلك النقطة العميقة في الآخرين، يكفينا بأن نؤمن بوجودها، وألا نرهق بشريّتنا المتواضعة التي خلقنا بها لإرغامها على أن تدرك ما لا يمكنها إدراكه مهما بلغت من التفكير والثرثرة، كثرثرتي الليليّة هذه.



تعليقات

  1. ليس في كل هذا أي ثرثرة..
    بل تناغمت الحروف كنوته موسيقيه خالية من النشاز

    ردحذف
  2. غير معرف

    شكراً، يسعدني أن تكون أحرفي لحناً صافياً بالنسبة لك =)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أن تعيش حقيقتك – خطوات عميقة في معرفة النفس

المرأة من منظور "زمّليني"

ثمن التجربة