استلهامات عن القوة – من وحي فتاة رقيقة
كم أحب نهار السبت، الوقت الفاصل بين نهاية
الأسبوع وبدايته، بين اجتماعات العائلة واجتماعات العمل، المحطة التي أقف فيها على
حافة الحياة وأستنشق حياتي، دائمًا ما أقضي لحظات نهار السبت برفقة طبق محبب
كالخبز الفرنسي مع الفراولة والتوت والقهوة السوداء، أو الخبز المحمّص مع مزيج
اللبنة بالفلفل الملون والنعناع والزعتر والشاي الإنجليزي، وقراءة أسبوعية لكتاب
مطوّل. نهار سبت اليوم فضلت قضاءه هنا في مدوّنتي، أكتب عن ما يثير فضولي نحوي
ونحو ما استجد من مدارك محطات العيش.
الإدراك الذي أثار فضولي مؤخرًا هو
اكتساب القوة، كيف اكتسبتُ القوة؟ رغم أنوثتي كفتاة من جانب ومن جانب آخر شخصيتي
الرقيقة والمتعاطفة والمتعلقة بأسباب الأمان والضمانات الحياتيّة. وبالعودة إلى
العهد الذي كنته، حين كنت متذبذبة تجاه معاني القوة، أتذكر كم تأذيت من فكرة
الضعف، فكرة اللجوء إلى القوة بدل التحلّي بها، عدت إلى تلك المرحلة من خلال دفتر
قديم اعتدت تدوين محطات حياتي المهمة فيه ببنود عريضة غدت كمرجع للتأمل والتفكر في
سيري خطوة خطوة نحو الحياة الطيبة.
في صفحة تعود لعام 2019 كتبت فيها (بالمناسبة
كان يوم سبت كذلك حينها ^^) فضفضات عن وجهتي الحياتية وما أريد ان أكون، لفتتني
خانة في الصفحة عنونتها بــ (المؤمن القويّ) دوّنت تحتها ثلاثة أسطر أبديت فيها رغبتي
الجادّة باختيار القوة،"أختار أن أكون قوية" وسردت بعدها ميزات لهذه
الصفة، ثم أغلقت حين ذاك دفتري واستكملت عيش سنيني ولم أكن أحيط إدراكًا بعمق هذه
الأمنية او الإرادة إن صح التعبير وما يمكن أن تتطلبه مني لاختيارها وما هي
احتمالات الأحداث والمنعطفات لاكتسابها.
بعد ست سنوات، أدوّن هنا المكاسب
الحقيقيّة للقوة في تدوينة تتعدى الثلاثة أسطر لفضفضات دفتري القديم. في الحقيقة، الأمر
ليس له علاقة بالتنظير أو قائمة نصائح براقة للانتقال من فتاة هشة إلى فتاة تنضم
إلى فريق فتيات القوة، كلا على الإطلاق، هي رحلة ذاتية بحته ومكاسب تجارب شخصية قد
لا تتقاطع مع تجربة شخص آخر أو فتاة أخرى تحديدًا، لكنها تستحق المشاركة:
مفهوم قوّة الأنثى:
نحن الفتيات قد تشكل علينا المفارقة بين
معنى القوة وبين فطرة أنوثتنا ورقتها، وقد نظن بأن اكتساب القوة يتعارض مع
طبيعتنا، وقد أدركت بأن الأمر عكس ذلك تمامًا، فنوع القوة الملائم لي قد أكسبني
مزيد من الإمكانيّات لأن أكون أنثى أكثر وذات انسابيّة فطريّة بشكل أكبر. فالقوة
التي خلصتُ إليها هي قوة الصدق والحدس والرغبة والوضوح والشفافيّة والشجاعة
للإيمان بذلك.
قوّة أن تقولين نعم بملئ شعورك، وأن
تقولين لا بملئ إدراكك، وأن تخوضين السبل التي تُشعرك بخفتك وتغذي فطرتك وأن
تمارسين التجارب التي تنعكس على روحك ومبسمك وتتخذين القرارات بناءً على ما يرفع
مستوى كل ما سبق. القوة المعنيّة هنا هي قوّة ارتباطك بداخلك وإنصاتك لأفكارك
وثقتك بمبادئك الفطرية الصافية وأخذها بقوة، لا بشك أو تردد أو مساومة لنيل قوة
خارجية كالمردود المجتمعي أو المردود المادّي!
وذلك لأن تلك المردودات ستعود عليك
بالضعف، ففي كل مرة سوف تلجئين لها لإمدادك بالقوة (الغير حقيقيّة) وتبعًا لذلك
سوف تستمرين في حلقة اتخاذ القرارات وتشكيل حياتك بشكل لا يلائمك فقط لنيل تلك
المردودات كهدف أوّلي، مما يؤول بك إلى توسّل قوة لا تقويك، وإهمال قوّة حقيقيّة
فيك!
أول خطوة هي العقَبَة:
حين أردت أن أكون قوية كنت أعلم بأنها
رغبة صادقة لكنه كان يخفى علي كيف سوف تتشكّل تلك الرغبة. فحين يريد المرء أن يكون
طبيبًا سيتشكل الطبيب فيه من خلال التعلم الجاد والتعرض لحالات المرضى القاسية
وإتقان مداواتهم، وحين يريد المرء أن يكون معلّمًا مربّيًا عليه استعياب الطلبة
ومفارقات النفسية وإدراكهم لتعليمهم وتربيتهم، وحين يريد المرء أن يكون ماهرًا في
تسلّق الجبال عليه ممارسة وتمرّس الصعود الشاق ومهارات التحمّل، وأخيرًا، حين يريد
المرء أن يكون قويًّا عليه مواجعة ما لا يتوقع مما يجعله ضعيفًا!
كأنثى رقيقة جدًا أرادت القوة كان يصعب
عليها فهم ذلك، كانت تتوقّع أن القوة هي حاجز من الحماية، لتبقى قوية ومتماسكة،
كانت تتوقّع بأن القوة هي عبارة عن توفر ظروف وضمانات من الأمان من كل ما يثير
قلقها أو حزنها أو يزعزع أمن وداعتها، لكنها لم تكن تدرك بأن القوة ليست في حاجز
الحماية هذا، والاحتماء به، بل في تخطيه ومواجهة الواقع وتعلّم اكتساب تلك الحماية
شجاعةً واعتناءً وليس اختباءً واحتماءً.
فبعد اختيارك أن تكوني قويّة، أول خطوة
لتشكيل ذلك هو أن تتفاجئين بأنكِ وسط عقبات تضعفك، تهز ثقتك، أو كيانك واتصالك
بشعورك، على مدى فترات متعاقبة أو طويلة، ليس بالضرورة أن تحدث لكِ أمور تؤذيك
أنتِ في المقام الأوّل، بل قد تحدث لمن تحبينهم، فتواجهين ظروف غير مريحة، أو
محزنة أو كاسرة لقلبك اللطيف. وهنا تحديدًا تبدئين بالحبو نحو النهوض مجدّدًا، وتهجئة
كلمة " ق وّ ة" وتعلّم دروس معانيها مهما كانت قاسية.
في هذه المرحلة تحديدًا، انتقلتُ من
خسارة وقودي بالانفعال، إلى اللجوء للهدوء والتفكّر والأفعال. هذه قوة عظيمة، قوة
السكينة في المواجهة، قوّة الإيمان بالتجاوز وبأن ما يحدث لصالحي مهما كان مريعًا،
قوة الأمل بأن ما يجري هو ظرف في حياتي وليس حياتي، وبأن عقبات الضعف هي هِبات
القوة!
أهم عدوّ للقوة:
لعلّ أهم ما منعني من اتخاذ قرار القوة في بعض المراحل هو الخوف من الألم، اكتشفت بأنه أكبر عدو للقوة، الخوف من الألم يشمل الكثير من القرارات التجنّبية والقبوع خلف حاجز الحماية المذكور آنفا. أن نتخذ قرار فقط لأنه أسهل علينا وأكثر حماية من الضرر (وإن كان لا يطابق رغبة صادقة خفيّة فينا أو يمنعنا من التطور) هو نابع من خوفنا من ألم، كألم التخلّي وقول لا، أو خوفنا من الرفض، أو من ألم الوحدة، أو التعرض للمسؤولية الذاتية والتغيير ومجابهة رغبات حقيقيّة.
لكل شيء ثمن، والشجاعة قد تؤلمنا لكنها
في نهاية المطاف تعلمنا، هذه كلمات سمعناها كثيرًا من مطوّري الذات وخطباء
التحفيز، لكنها على أرض الواقع والتجارب الحقيقيّة أجمل وأصدق بكثير. وقد نستطيع
اكتسابها طواعية وبرغبة ذاتيّة لتعزيز الشجاعة وتقليل الخوف من الألم. فالألم ليس
كلّه مؤذٍ، بالضبط كما حدث معي.
تجربتي كانت في التعرّض للألم من خلال
ممارسة الرياضة، استوعبت فعلًا أن ليس كل ألم مؤذٍ! كنت أعود من النادي فأتفاجأ
بوخز الألم أثناء النهوض أو الحركة لكنني كنت سعيدة، فلكم كان ألمًا لذيذًا حقًا، اليوم
أكمل عامًا ونصف من ممارسة رياضة الأوزان كأسلوب حياة، بالقدر الذي يزيدني صحة
وجمال، وفي المقابل النفسي، يزدني شجاعة لمواجهة الألم. فهنا الموضوع غدا أسهل في
الإدراك: ((واجهي ألمك بمقاومة الوزن الثقيل هذا لتتلقيّ شعور بالراحة والتخلص من
ترسبات النفس والجسد والتمتع بصحة نفسية و بهيئة أجمل مع مرور الوقت)) لكم هذا
رائع، مفهوم جديد للألم! وينطبق بالضبط على الحياة أيضًا: واجه ما يؤلمك...يلهمك ويعلّمك.
الرياضة تغير الكثير، أي نوع من الرياضة،
لأنها تحمل الفرد على إلقاء نفسه في مواجهة تحدّي نفسه، الجسد يتحدى الجسد،
والشعور يتحدى الشعور، فتُخرج منا ما لا نتوقعه عنا، فنقف مذهولين من أشخاص كانوا قابعين
بداخلنا يتحلّون بالشجاعة والقدرة وتذوّق الألم كمحفّز ومعزز. الرياضة قوّة، ثقة،
صحة، شخصية أكثر اتزان وثبات.
إدراك عمق فكرة الصلة بالله:
كل ما ذكرته لم يكن ليُكتَسَب لولا معونة
الله، وقد أجلت هذا المحور لآخر التدوينة لأهميته لا لثانويّته. فكرة الصلة بالله
قد تمتزج ببعض المغالطات مما قد يحرمنا التمتع بتلك الهبة والنعمة الأسمى. الصلة
بالله خاصة لدى الأنثى مصدر القوة الأساسي، والذي يسبق حتى اعتمادها على نفسها.
صلتنا بالله ليست في تأدية العبوديّة وجوبًا، بل في التعبّد له حبًّا وخوفًا
ورجاءً واعتمادًا كليـــًّا. الصلة بالله هي سعينا لاتصال كل نيّة ومطيّة به، ومن
ضمنها رغبتنا في القوة.
الله يحب القوة ويثني على أصحابها وهي
متضمنة لكل ما يزيدنا صلة به سبحانه، ففيها حسن الظن به، والصبر على أقداره،
والصبر عن ما لا يرضاه، والصبر في اتباع ما يرضاه، والتحلّي بصفات أولي العزم
والاقتداء بهداهم. وما ألهمني أكثر حول تلك المعاني هو قرائتي في سير النساء القويّات
بالله من الصحابيّات وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن أجمعين، وغيرهن من نساء هذا
العصر، فمنهنّ الأديبات والطبيبات والمعلّمات والتاجرات والخطيبات والمتحدثات
وصاحبات المشورة والرأي والسؤدد ومع ذلك هنّ النساء الرقيقات المؤنسات العفيفات
الطاهرات القانعات والفَطِنات لتلك المفارقات الدقيقة!
الله يريد منك أن تكوني قوية به، لا
بنفسك، الصلة به علاقة وثيقة صادقة تعزز بداخلك السند الفعلي الثابت الذي لا يمكن
أن تخافين تغيره أو تحوّله، فهي مصدر حقيقي ومكثف ومستمر ومتواصل للحب والقوة
والمعونة والأنس والبصيرة، وتلبي جميع احتياجاتك من حيث الرغبة بالإرشاد وسط التيه
والأمن وسط الخوف والقوة وسط الضعف والراحة وسط الألم والحقيقة وسط الضبابيّة
والحيرة. فمن المغالطات عزل تلك الصلة وحدّها بالتنميط أوبممارسات معينة كجانب من
الحياة، وهي في الأصل ليست مقتصرة على تلك الحدود، بل هي عميقة جدّا وشاملة لكل ما
لا يمكنك تصوّره من جوانب حياتك من ظروف وسبل عيش ومعضلات نفسية ورغبات حياتيّة.
حين ندرك تمامًا عمق تلك الصلة ونتمسك
بها بكل ما أوتينا من صدق، تنمو جذورها في كل مسعى وتغمر ينابيعها كل أرض نطؤها في
حياتينا، فتظللنا وتروينا وترافقنا وتحمينا وتقوّينا وتغذينا، وتكون النتيجة ذلك
السؤدد في القرارات، والثبات في أوجّ الرياح العاصفات، والقوّة التي لا تتعارض مع
ضعف بشريّتنا وخيبة أملنا وانكساراتنا، لأنها قوّة إيمان قبل أن تكون قوّة حماية
وأمان من الخدوش والظروف!
أنهي هذه التدوينة ونهار السبت قد شارف
على الانتهاء لاستقباله ساعة الغروب، كتبتها على عجالة ممزوجة بالحماسة والتدفق
السريع لأنني أؤمن بالكتابة الحرة ذات النيّة الواضحة. مع أملي بدوام قوة الكتابة
وقوّة العيش لحياة دائمة الإلهام.
رائع جدًا، يناقش مايجول في بالي
ردحذفسعيدة بذلك! شكرًا.
حذفأن تقولين نعم بملئ شعورك، وأن تقولين لا بملئ إدراكك .. رائعه يا بشرى تختصر معنى القوه 💛
ردحذفكروعة مرورك حبيبتي 💛
حذفالتعلق بالله اهم ماذكرتي
ردحذفونعم بالله، شكرًا.
حذف